قد تكون السياسة هي الهاجس الأكبر لدى الكثير من المهتمين بالشأن العام، وخصوصاً في بلد يعاني الكثير من الأزمات، أبرزها عدم الاستقرار السياسي، والذي يولد المواجهة الدائمة بين السلطة والقوى السياسية بمختلف الأسباب والمطالب، حيث أنه لا يخفى على أحد الأنشغال الدائم بالقضايا السياسية ومن قِبل أعداد كبيرة من أفراد المجتمع الكويتي، وكثيراً ما تتلقى الديمقراطية أو مطبقوها الاتهامات بفشلها في الكويت، ربما تحمل هذه العبارة جزءً كبيراً من الصحة، وقد يكون الفهم لها هو نقطة الخلاف، وبعنى آخر نوع البيئة التي تمارس بها هذه الديمقراطية.
وفي بلدٍ يعج بالكثير من العراقيل بدء من المستوى الخدماتي والبنية التحتية، وصولاً إلى إختلاف المفاهيم ودور مؤسسات المجتمع، إنتهاء بإنعدام الرؤية على المدى البعيد بل وحتى القريب، لتأتي السياسة فتكون الطريق الوحيد نحو حل جذري لجميع أزمات البلد، وتخلق الأوهام لدى الشريحة الأكبر بأن الأزمة هي قضية سياسية وتجاوزها يكمن في السياسة.
قد تخوض السياسة في العديد من المواضيع والقضايا التي تهم البلاد والمواطنين بشكل عام، وقد يحاول السياسيون إيجاد حلول للمطالب والعقبات التي تواجه مختلف القطاعات، ولكن غالباً ما تفشل السياسة في إيجاد الحلول أو تصحيح المسارات، وخصوصاً على المدى البعيد، ويمكننا تفسير ذلك بأن السياسة أمر طارىء وجزئي لا يغوص في عمق القضايا والمشاكل التي يعاني منها البلد، وبالمقابل تبحث السياسة عن الحلول الآنية التي تنظر إلى كافة المسائل نظرة تغلب عليها السطحية والمباشرة، وبالتالي النتائج السريعة والمباشرة، وذلك لأجل مكتسبات إنتخابية أو إخماد الرقابة الشعبية، وكذلك الإلحاح والإعتقاد بإمكانية وجود الحلول والأهداف بأسرع ما يمكن.
لا يمكن إلقاء الخلل على عاتق السياسة وحدها، وكذلك لا يمكن البحث عن حلول لجميع مشاكلنا عن طريق الخوض بالسياسة أو تسييس الأمور، لأنه دائماً ما تضع السياسة اهدفاً، بعيدةً كانت أم قربية، لتسعى للوصول إليها بالقانون أو ثغرات القانون، وأحياناً بمخالفة القانون، وهذا ما نراه كثيراً في بلدان العالم الثالث، ذلك لأن السياسة لا تبني بلداً، ولكنها تنظم البلد وتعمل على اسقراره بعد وجوده أصلاً، أي وجود الأساس لبلد ذو قوانين مدنية، وبالتجربة الكويتية بالتحديد، ما قد يضيف من تدهور المشكلة هي الفهم لا المفهوم للسياسة والديمقراطية، بحيث أنه كلما تم الحديث عن الأوضاع السيئة للبلد تكون السياسة في صدارة الأسباب بل وحتى الحلول إن وجدت.
وجدير بالذكر أنه عندما تمت الأصلاحات السياسية في الكويت في بداية الستينيات، وتم وضع دستور ينظم البلد ويشكل العلاقة بين السلطات، بالأضافة إلى صون الحقوق المدنية، وفي ذلك الوقت يعتبر انجازاً كبيراً بالمقارنة مع الدول المحيطة، وكذلك يعد نقلة نوعية من مجتمع بسيط إلى مجتمع مؤسساتي معقد، ولكن المجتمع آنذاك لا يزال غير مهيئ لكل تلك التغيرات، بحيث أنه يستوجب أن يجاور تلك الاصلاحات السياسية برنامج حكومي يعمل على اعداد الشعب لكي يتماشى مع هذه التطورات، ولكي يتم خلق مجتمع يعي مبدأ المواطنة وأهمية تلك الحقوق المدينة، ولأن السلطة أو الأسرة لم تكن مقتنعة بهذه التغيرات، بحيث أنها فقدت حجماً كبيراً من صلاحياتها، وما أقدم علية أمير الكويت آنذاك الشيخ عبدالله السالم قد يكون بمثابة الصدمة، لهذا بدأ هذا الصراع بين الأسرة والتجار مسبقاً والذي امتد لاحقاً ليكون من بعض أفراد الأسرة وشريحة أكبر بالمجتمع الكويتي، لذا فإنه من الواضح أن نرى سياسات الحكومات السابقة وإلى الأن التي لا تريد أن تنشر الوعي الديمقراطي والمدني لأفراد المجتمع سواء من خلال التعليم أو غيره، وزرعت ثقافة المجتمع الريعي المعتمد على الحكومة، وحاربت التيارات الوطنية، وتحالفت مع تيارات الأسلام السياسي، لأن زيادة الوعي الثقافي الديمقراطي للمجتمع ليس من مصلحة السلطة وقد يفقدها حتى ما تملكه الآن.
إذن فالخروج من كل هذا التخبط لا يأتي إلا برغبة شعبية، وقد لا يأتي من السلطة نفسها، وكذلك يجب أن ندرك بأن بناء بضع منازل للمواطنيين وزيادة الرواتب من قبل الحكومة لايعتبر الأصلاح المنشود، وللأسف أن هذه الأمور هي أولويات بعض النواب، وهذا دليل قاطع بأننا لا نزال نفتقد إلى الثقافة المدينة الديمقراطية.
لا يمكن إيجاد الحلول الأنية لكل شيء، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير، وقبل ذلك يجب أن نعرف بأن الحل لا يأتي من فرد واحد أي الأيمان بنظرية المخلص أو القائد، حيث أن العمل الجماعي من أهم الركائز التي يجب أن نتكئ عليها، والتي تحتل الديمقراطية جزء كبير منها، ولكن لن نجني ثمارها إلا بعد مراحل عديدة وبيئة مختلفة وليس بالشكل الحالي، ذلك لأن النظرة نحو الديمقراطية لا تزال قريبة من أن تكون هدف وليس وسيلة، وبالطبع تكون السياسة أمر جزئي وليس رئيسي إذا كنا فعلاً عازميين على تغيير جذري في واقع الحال.
ويمكن حصر مجموعة من الحلول التي قد ترتكز على ثلاثة قواعد، تبدأ بمؤسسات الدولة المدنية والأكاديمية، والتي لاينحصر دورها بالمطالبة بالحقوق والعمل السياسي، وإنما تدخل إلى أوصال المجتمع، وتعمل الدراسات اللازمة والعمل الأكاديمي الجاد، وتعمل كبديل جيد للشباب، وإحياء الحياة اليومية.
أما الركيزة الثانية فهي التعليم، بحيث أنه المؤسس والأساس لأجيال سليمة قادرة على فهم واحترام الحياة والمواطنة، ليكون تأثير التعليم أكبر من تأثير البيئة السائدة والنظرة العامة للأمور، وقد تكرر الحديث عن هذه القضية من قبل الكثيرين، وإن إتفق جميعنا على وجود مشكلة في التعليم، فقد لا نتفق على طريقة الحل، وقد تكون السلطة أي السياسة هي المسؤول الأول عن هذه المشكلة، ويمكن تطويرها بالمطالبات والاصرار من قبل تحركات جماعية منظمة، أي يمكن التأثير والضغط خارج نطاق السياسة لتكون رغبة شعبية قبل أن تكون حكومية أو نيابية.
أما القطب الثالث والأهم، هو دور الثقافة والمثقف، ولا أعني الثقافة بالمفهوم الحالي أو بالمفهوم المأدلج، والذي يجرد الثقافة من كل شيء، فالثقافة والمثقف يخوضان في كل موضوع، وذلك للبحث والنقد، لإيجاد الحلول والبدائل الأفضل للإنسان مهما كلف الأمر، ولذلك دائماً ما يجد المثقف العديد من الخصوم والعقبات، أهمها السلطة وبعض التيارات التي تخشى على مواقعها، وكذلك الإغراءات المادية لإفساد الضمائر، أو اللجوء إلى السياسيين وتهميش دور المثقف أو ربما لجهل دوره، فالمثقف الحر يحرك مؤسسات المجتمع والأفراد وجميع من يرغب بتحسين وضع المعيشة والحياة، وبمعنى آخر وجود وإحياء عوامل آخرى كالثقافة والأدب والفن الراقي، جنباً إلى جنب مع العمل السياسي والتعليم الجيد، سوف يخلق نوعاً من التغيير المطلوب، ليس فقط من جانب الوضع المعيشي الملموس، وإنما تغيير الناس أنفسهم وزيادة مستوى الوعي لديهم.
لا أزعم أنها الحلول الوحيدة أو الجذرية لجميع أزمات البلد، ولكنها تخرج عن نطاق السياسة إلى حد ما، وتضع جميع الأفراد في كنف المسؤولية، وهي بالطبع على المدى البعيد جداً، ولا أعني هنا التوقف التام عن العمل السياسي، ولكن يمكن اعتباره موضوع جانبي إذا اردنا الحديث عن تغيير حقيقي، وبعد الوصول إلى مراحل تقدمية معينة، تأتي السياسة لتضع اللمسات والتعاملات الأخيرة لبلد دائم ومستقر.